الجنة فى السويد
والنار فى الصومال
حكاية الانسان منذ البداية وحتى
المصير
مقدمة الكتاب
هذا الكتاب ليس كتابًا في الفقه أو التفسير أو
التاريخ المقدّس بالمعنى التقليدي، بل هو رحلة فكرية وتأمل شخصي في أصل الكون،
ونشأة الإنسان، ومسار الحضارات. هو سرد فلسفي يمزج بين الأسطورة والتأمل الشخصي.
لقد حملتني الأسئلة الوجودية الكبرى منذ زمن طويل:
من نحن؟
من هو الله؟ وكيف يمكن للإنسان أن يعرف خالقه؟
ما معنى البعث؟ وأين يكون؟
ولماذا اختلفت طرق الشعوب بين رخاءٍ وازدهار، وفقرٍ
وصراع؟
هذه الأسئلة لم أجد لها إجابة جاهزة، لذلك حاولت أن
أقدّم هنا قراءة رمزية وتأملية في القصص الموروثة عن الأنبياء، وأحداث التاريخ
الكبرى، لأبحث عن المعنى الإنساني المشترك الذي يجمعنا جميعًا.
إن ما بين يديك ليس دينًا جديدًا ولا محاولة لفرض
عقيدة، بل هو اجتهاد إنساني حر، أقرب إلى الفلسفة منه إلى اللاهوت. وقد استعنت فيه
بالنصوص الدينية باعتبارها رموزًا حية تعبّر عن رحلة الوعي البشري في بحثه عن الله
وعن الحقيقة.
هدفي من هذا الكتاب أن أفتح باب التفكير والنقاش، وأن
أضع القارئ أمام الأسئلة التي قد تدفعه إلى البحث بنفسه، أكثر مما أقدّم أجوبة
نهائية. فالحقيقة، في النهاية، أوسع من أن يحتكرها فرد أو جماعة.
عن الكاتب
وسام رضا، 56 سنة، مهندس اتصالات، عمل بكبرى شركات
الاتصالات العالمية ويعمل حاليا بمجال التنمية البشرية، باحث بالفطرة، شغوف بطرح
الأسئلة أكثر من الاكتفاء بالإجابات. شارك لسنوات طويلة في مناقشات فكرية عبر
منصات الحوار المفتوح مثل "بالتوك"، حيث وجد أن الحوار أداة لا غنى عنها
لاختبار الأفكار وتوسيع المدارك. لا يقدّم نفسه كفقيه أو فيلسوف، بل كإنسان يحاول
أن يرى بعين جديدة ما اعتدنا جميعًا أن نراه بعين مألوفة.
الفصل الأول: الله والفضاء الخارجي – السماء كوجه
الله
حينما نرفع أبصارنا إلى السماء، اعتدنا أن نراها مجرد
فراغ واسع، فضاء أسود مرصّع بالنجوم. لكنّ هذا الفراغ قد يكون أعمق وأعظم مما
نتصوّر. في تصوري، الله ليس شيئًا خارج هذا الفضاء، بل هو ذاته هذا الاتساع
اللامتناهي الذي يحيط بنا من كل جانب. الله هو الوجود المطلق، والفضاء الخارجي ليس
فراغًا، بل هو حضوره الممتد الذي لا يُرى ولا يُدرك إلا بحدود عقولنا.
يقول الله تعالى: "كل من عليها فان ويبقى وجه
ربك ذو الجلال والإكرام".
فإذا تأملنا هذه الآية، وجدنا أن "وجه
الله" ليس مجرد صورة بشرية نتخيلها، بل هو كل ما يظلّلنا ويرانا في وقت واحد.
حين نرفع وجوهنا إلى السماء في القاهرة أو نيويورك أو باريس أو أي مكان، نحن
جميعًا نواجه السماء نفسها. والسماء هنا ليست مجرد سقف أزرق أو فضاء أسود، بل هي
وجه الله الذي يرانا جميعًا في اللحظة ذاتها.
الفضاء مظلم، وهذه الظلمة ليست فراغًا، بل هي ستار.
الله استتر في هذا السواد، كما قال في الكتاب المقدس: "في البدء خلق الله
الظلمة، ثم قال ليكن نور فكان نور". فالظلمة إذن ليست نقيضًا للنور فقط، بل
حجابًا إلهيًا يحجبنا عن رؤية الحقيقة المطلقة. ولو كشف الله هذا الحجاب – كما
تجلّى للجبل – لصار الوجود كله دكًا، ولما احتملته طبيعة البشر.
الفضاء إذن ليس مخلوقًا منفصلًا عن الله، بل هو ذاته
مظهر من مظاهر حضوره. كل نجم، كل مجرة، كل كوكب، إنما يتبدّد وسط هذا السواد
العظيم الذي لا ينتهي. هو الواسع، اللانهائي، الذي يحتوي كل شيء ولا يحتويه شيء.
ثم إن الزمن نفسه – الأيام والليالي، الأسابيع
والشهور – إنما هو من خلق الله، وهو أول خَلقه. في البدء خلق الله
"الزمن"، فجعل اليوم 24 ساعة، وجعل الأسبوع سبعة أيام، وهذه الثوابت لا
تختلف بين مصر وأمريكا وأوروبا. يختلف التقويم، تختلف أسماء الشهور، لكن الزمن
واحد. ومن هنا نفهم لماذا خلق الله الكون في ستة أيام ثم استوى على العرش في اليوم
السابع: لأنه بذلك اوجد الزمن وأعلن سيادته على هذا الزمن، لا على المكان وحده.
وهكذا يصبح رفع اليدين في الصلاة، أو رفع الوجه نحو
السماء، فعلًا رمزيًا لمواجهة الله مباشرة. لسنا نوجّه وجوهنا إلى فراغ، بل إلى
الوجود ذاته، إلى حضرة الله التي تستتر خلف تلك الزرقة وهذا السواد، وتحوطنا من كل
جانب.
إنّ هذه الرؤية قد تبدو صادمة للبعض، لكنها محاولة
لتوسيع الأفق: أن ننظر إلى السماء لا باعتبارها مجرد فضاء كوني، بل باعتبارها
وجهًا من وجوه الإله الحيّ، الحاضر في كل مكان وزمان، المستتر خلف ظلمة لا يراها
أحد إلا بقدر ما
الفصل الثاني: الأرض الأولى والجنة المائية
في البدء، لم تكن الأرض كما نعرفها اليوم. لم تكن
جبالًا ولا وديانًا، ولا أنهارًا ولا سهولًا. بل كانت كرة زرقاء صافية، تحيط بها
المياه من كل جانب، لا يُرى فيها يابسة ولا يلوح فيها أثر للحياة. كان الماء
يغمرها تمامًا، حتى سُمّيت في علم الله "كوكب الماء" حيث جعل عرشه.
ثم شاء الله أن يكشف الستار عن سر جديد من أسرار
الخلق. أمر الماء أن ينحسر قليلًا، فأطاع الماء، وانكمش بعضه، كاشفًا عن أرضٍ
خضراء يانعة، تتلألأ تحت أشعة النور الإلهي. كانت أرضًا نقية، عذراء لم تطأها قدم،
زُيّنت بالنباتات والحدائق، وصارت جنةً ودارًا للعبادة والسلام.
واتصور انه في تلك الأرض، ابتدأ الله خلق مخلوقين
عظيمين: الملائكة والجن.
الملائكة: أبناء النور
خُلِقت الملائكة والحور العين من نورٍ صافٍ لا تشوبه شائبة. كان
نورهم مشعًا، يفيض على وجوههم صفاءً وبهاءً. كانت بشرتهم بيضاء مضيئة، وشعورهم
شقراء أو ذهبية، وأعينهم زرقاء وخضراء، كأنها انعكاس للسماء والبحر معًا.
طبيعتهم كانت الطاعة المطلقة؛ لا يترددون في أمر، ولا
يعرفون العصيان. إذا أمرهم الله، فعلوا ما أُمروا، دون جدال ولا نقاش. امتلأت بهم
أرض الجنة، فصاروا فيها أنوارًا تسبّح بحمد الله وتقدّسه ليلًا ونهارًا.
الجن: أبناء النار
ثم خلق الله الجن من نارٍ حامية. وكانوا على هيئة
مختلفة عن الملائكة: في وجوههم مسحة من الحُمرة، وشعورهم سوداء طويلة وناعمة،
وبشرتهم تميل إلى الحمرة الداكنة. أعطاهم الله خفة الحركة وقوةً لا تهدأ، فكانوا
يملؤون الجنة
نشاطًا وحركة.
لكن رغم اختلافهم عن الملائكة، عاش الجن في تلك
الحقبة في طاعة الله أيضًا. كانوا يعبدونه كما أُمروا، يخضعون لسلطانه، ويسكنون في
الحدائق والبساتين التي ملأت الأرض التى سميت "بالجنة"، أي دار الخضرة
والوفرة.
الوئام الأول
عاش الملائكة والجن معًا في سلامٍ ووئام. وكان كلٌّ
منهما يجد مكانه في عبادة الله، فيُسبّح الملائكة في صمتٍ ووقار، ويجري الجن في ارض
الجنة بأصواتهم وطاقاتهم، وكلهم يشهدون بوحدانية الله.
لم يكن في ارض الجنة بعدُ صراع ولا عصيان، بل
سكينة وطمأنينة. أرضٌ خضراء محاطة بالماء، وسماءٌ تظلها، ومخلوقات طاهرة لا تعرف
إلا التسبيح والخضوع.
إعلان جديد
لكن هذه الحال لم تدم. ففي يومٍ من أيام الله، جاء
الإعلان العظيم: أن الله أراد أن يخلق مخلوقًا جديدًا، يختلف عن النور والنار.
مخلوقٌ ليس من نورٍ يضيء، ولا من نارٍ تلتهب، بل من طينٍ يابس من الأرض نفسها.
أراد الله أن يجعل من هذا الطين بشرًا، كائنًا يجمع بين الروح والجسد، بين العقل
والاختيار، بين الضعف والقدرة.
ذلك المخلوق كان آدم.
وبإعلانه بدأت مرحلة جديدة، فصل جديد في قصة الخلق،
يمهّد لصراعٍ طويل بين النور والنار والطين.
الفصل الثالث: خلق آدم وسجود الملائكة
حين أراد الله تعالى أن يبيّن حكمته في الخلق، قرر أن
يخلق مخلوقاً جديداً يختلف عن الملائكة الذين لا يعصون له أمراً، وعن الجن الذين
تغلب عليهم طبيعة النار والاندفاع. أراد الله أن يخلق كائناً يحمل في طبيعته حرية
الإرادة، كائناً يستطيع أن يختار بين الطاعة والمعصية، بين الخير والشر.
فجاء الأمر الإلهي بخلق آدم، أول البشر، من طين. هذا
الطين في ظاهره شيء بسيط لا قيمة له، لكن الله سوّاه بقدرته، ثم نفخ فيه من روحه،
فصار إنساناً حياً عاقلاً مفكراً، قادراً على أن يتعلم ويعلّم، وأن يتحمل مسؤولية
الخلافة في الأرض.
عندما أتم الله خلق آدم، أمر الملائكة أن يسجدوا له
سجود طاعة، ليظهروا اعترافهم بالمكانة التي أعطاها الله لهذا المخلوق الجديد. قال
الله تعالى:
﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا
لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ
الْكَافِرِينَ﴾ (البقرة: 34).
فسجد الملائكة جميعاً بلا تردد، إذ هم مخلوقون للطاعة
الكاملة والامتثال لأمر الله. أما إبليس، الذي كان من الجن، فقد ملأ الحسد قلبه.
فقد رأى نفسه أرفع شأناً من آدم، لأنه خُلق من نار بينما خُلق آدم من طين. فكيف
يسجد، في ظنه، لمن اعتبره أدنى منه؟ فرفض السجود، واستكبر على أمر الله، فكان من
الكافرين. ومنذ تلك اللحظة أصبح إبليس عدواً لآدم
وبعد أن خلق الله آدم، أوجد له زوجاً تؤنسه وتكون
سكناً له، وسمّاها حواء. كانت حواء جزءاً من آدم، خلقت لتكون رفيقته في الحياة،
وليكملا معاً معنى مهمة الخلافة.
أسكنهما الله الجنة، حيث لا جوع ولا عطش ولا نصب، حيث
النعيم المقيم، والطمأنينة والسلام. لكن ذلك الاستقرار لم يكن نهاية القصة، بل
بدايتها. فقد قرر إبليس، وقد امتلأ قلبه بالكبر والعداوة، أن يجعل همه الأول إغواء
آدم وزوجه. أراد أن يخرجهما من الجنة، وينزع عنهما مكانة الخليفة، ويثبت وجهة نظره
أن هذا المخلوق الجديد لا يستحق التكريم.
وهكذا بدأت أول مواجهة بين الخير والشر، بين طاعة
الله ووساوس الشيطان. كان هذا الامتحان الأول للإنسان، امتحان الحرية والإرادة
التي ميّزه الله بها عن سائر خلقه.
الفصل الرابع: الشجرة المحرّمة — عهدُ الخلافة وحدُّ
اللذة
اصطفى اللهُ آدم ليكون خليفتَه في الجنة أولًا؛
تشريفٌ يجيء ومعه تكليفٌ و حدٌّ واضح. أعطاه نعيمَ المقام، وسعةَ الرزق، وأمانَ
العيش، ثم جعله على عهدٍ: أن يحفظ حدود الخلافة فلا يتعدّاها. وكان الحدُّ الأبرز
— في تلك المرحلة الأولى — هو تحريم التزاوج؛ فصارت متعةُ الجنس هي رمزَ الشجرة
المحرّمة أو هكذا صارت الثمرة/التفاحة تمثيلًا للذّة المؤجَّلة. ما في الجنة من
نعمٍ مباح، إلا هذا الحدّ؛ إنّما هو بابٌ لا يُفتح إلا بإذنٍ وحكمة وفي وقتٍ معلوم.
معنى العهد
في تصوري لم يكن المنعُ استخفافًا بطبيعة الإنسان، بل
تقديسًا للوقت وترتيبًا للمراتب: أن يتعلّم الخليفةُ الطاعة قبل النسل، وأن
يثبت حمله للأمانة قبل أن يحمل الذرّية. فالخلافةُ ليست مُلكًا يورَّث فورًا، بل
أمانة تُعقَدُ لها حدودٌ ليقع الامتحان. وكان اللباسُ الذي أُلبسه آدم وزوجه لباسَ
طُهرٍ وطمأنينة؛ لباسًا من نورٍ وسكينة، يُشعِرُهما بكفاية النعمة من غير حاجةٍ
إلى اقتحام الباب المؤجَّل.
وسوسةُ إبليس: منطقُ الخوف من الفناء
منذ لحظةِ الإباء والاستكبار، حمل إبليسُ حقدًا على
هذا الخليفة المكرَّم. لم يقترب بوعدٍ مباشرٍ بالمعصية، بل زَيَّن الأمرَ بمنطقٍ
يبدو عقلانيًا: الخوفِ من الفناء، وذهابِ اللقب، وانقطاعِ الذكر.
همس إبليسُ لآدمَ وزوجه: "ستكبران وتعجزان،
وسيمرُّ العهدُ بعد وفاتك إن لم تُثبِّته بنسلٍ يمتدُّ به اسمُك. كيف يكون للخليفة
مُلكٌ بلا أبناء؟ وكيف يدوم المقامُ من غير ذرية؟ إن أردتَ الخلودَ والدوام، فاقترب
من البابِ المحجوب؛ تلك الشجرةُ هي سرُّ البقاء".
لم يسعَ إبليسُ لتوريط أحدهما دون الآخر؛ أدرك أن
بابَ اللذّة لا يُفتح إلا باجتماعِ اثنين، وأنّ فعلَ التزاوج لا يقوم إلا باقترانِ
الإرادتين. فصار يُداورُهما معًا: يُضعِفُ عزيمةَ هذا حينًا، ويُزيِّنُ لذاكَ
حينًا، حتى تمالأت الهمّتان على القبول.
الفعلُ المشترك: "فأكلا منها"
هنا جاء القرارُ؛ لا قرارَ فردٍ يتبوّعُه آخرُ خجلًا
أو تبعيّةً، بل قرارٌ مشتركٌ في لحظةٍ واحدة. كما أن التزاوجَ لا يُتصوّرُ إلا
باشتراكِ الجسدين، كذلك كان الأكلُ من الشجرة استعارةً للفعل: اقترابٌ، لمسٌ،
تذوّقٌ، ثم انغماسٌ تام في اللذّة المؤجَّلة. لذلك كان التعبيرُ الحقّ:
"فَأَكَلَا مِنْهَا" — فعلٌ بصيغة المثنّى، يشهدُ أن اللحظةَ كانت
اتحادًا في الإرادة والفعل معًا.
انكشافُ السِّتر: سقوطُ لباس الطهر
ما إن وقع الفعلُ حتى تبدَّى ما كان محجوبًا: انشقَّ
السِّتر النورانيُّ الذي ألبسهما الله، وبرز الإحساسُ الجديدُ الذي لم يعرفاه من
قبل: الخجل. يقول الله تعالى تحذيرًا لذريتِهما:
>
﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ
الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا
لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا﴾ (الأعراف: 27)
لم يكن نزعُ اللباس نزعَ قماشٍ فحسب؛ كان سقوطَ حالةٍ
من السكينة تحفُّهما، وانكشافَ الذاتِ أمام الذات أولًا، ثم أمام العيون. فبدت
لهما سوآتُهما، وداهمهما خجلٌ حادٌّ كالصفعة؛ إحساسُ كسرِ العهد قبل أن يكون
مجرّدَ عُري جسد.
ارتباكُ ما بعد السقوط
أوَّلُ ما فعلاه كان الستر. تقاطفت اليدان ورقَ
الجنة؛ يُخصفان منه على عَجَل، يلهثان وراء سُترةٍ تُخفّي ما ظهر. لم يكن السترُ
للجسد وحده، بل محاولةً لاستعادة السكينة التي ذهبت. بدت الحركةُ مضطربة:
التفاتاتٌ سريعة، أنفاسٌ متلاحقة، هروبٌ بين الظلال. لم تكن العيونُ التي هربا
منها عيونَ الملائكة والجن فحسب، بل عينُ الضمير وقد فُتِح على نفسه، يرى ما لا
يُحَبّ أن يُرى.
ومن وراء المشهد، كانت مهابةُ الحضور الإلهي تُظلّ
المكان: سكونٌ غامر، كأنَّ أوراقَ الجنةِ توقّفت عن الهمس، وكأنَّ النسيمَ أمسك
أنفاسَه انتظارًا للكلمة الفاصلة. لقد نُقِضَ العهد؛ والخليفةُ — الذي كان ينبغي
أن يحفظ الحدَّ — تعدّاه باسمِ وعدٍ زائفٍ بالخلود.
غضبٌ للحُرمَة لا للانتقام
كان الغضبُ الإلهيُّ ظاهرًا في هيبة الصمت: غضبٌ
للحُرمة المنتهَكة، لا رغبةَ انتقام. فالحدودُ لم توضع عبثًا، بل حراسةً للأمانة:
أن تُضبطَ القوّةُ بالمعنى، وأن تُؤطَّر اللذّةُ بالمسؤولية، وأن يتأدّب الخليفةُ
بالوقت والمرتبة. لقد كان بابُ اللذة موجودًا، لكنه بابٌ مؤجَّل لحكمةٍ أعلى؛ فلما
فُتِح قبل أوانه، وقع الاضطرابُ في النفس والمقام.
معنى السقوط في السرد
ليس السقوطُ إلغاءً للاختيار، بل كشفًا لوزنه. لقد
تعلَّم آدم وحواء — بالخبرة لا بالخطاب — أن الوعدَ بالخلود عبر اللذة خدعة، وأن
السترَ الحقيقيَّ هبةٌ من فوق، لا يُستردّ بورقةِ شجرٍ يُخاطُ على عَجَل. وتعلّما
أن الخلافةَ لا تقومُ بالنَّسل وحده، بل بالطاعة أولًا، وأن الذريةَ — إن
شاء الله لها الوجود — إنما تُحمَلُ على عهدٍ لا على نزوةٍ.
وقفةٌ قبل الحكم
عند هذا الحدِّ توقّف كلُّ شيءٍ لحظةً: آدم وزوجه
بقلوبٍ واجفةٍ ووجوهٍ مطرَقة، والجنةُ ساكنةٌ تنتظر البيان، والملائكةُ شهودٌ على
مضامين العهد وحدوده. ما قيل بعد ذلك — من عتابٍ أو تكليفٍ جديد — سيكون بدايةَ
فصلٍ آخر من القصة. أمّا هنا، فالمشهدُ يُغلَقُ على حقيقةٍ واضحة: أن الغوايةَ
بدأت بخوفٍ من الفناء، وانتهت بانكشافِ العُري؛ وأن الخليفةَ إن لم يحفظ حدَّه،
ضاعَ منه سترُه قبل أن يضيع مقامُه.
الفصل الخامس: هبوط الإنسان وبدء عهد جديد
بعد أن عصى آدم وزوجته حواء وذاقا من الشجرة، قرر
الله أن يبدأ عهداً جديداً للبشرية. أمر الله الماء أن ينحسر مجددا، فظهرت أرض
جديدة في الشرق وكانت صحراء جرداء، وفي الغرب أرض أخرى مخصصة لإبليس وزمرته من
الجن. أمر الله آدم وزوجه بالهبوط إلى الأراضي في الشرق، وسمى هذه الأرض الشرق
الأوسط، بينما أُهبط إبليس وزمرته إلى الأراضي الغربية، وسماها الغرب.
هنا بدأت مرحلة جديدة للبشرية، مع خليفة جديد، وأرضٍ
جديدة، وامتداد الزمن للأجيال القادمة. خطط الله للبشرية بأن يصطفى من بعد ذلك بشر
طاهرون لوراثة الخلافة، ليبدأوا عهدًا جديدًا مع الإنسان. ومن هذه الخطة، تم
التخطيط لاصطفاء مريم ابنة عمران ليكون منها مولودٌ طاهر يمثل بداية عهد جديد
للبشرية، دون أن يكون قد ولد بعد؛ مجرد تخطيط إلهي يوضح أن الخلافة والتوجيه بيد
الله وحده، وأن قصة الإنسان مع الله لن تتوقف عند هذا الحد. وبدأ منذ تلك اللحظة الاعداد
للمسيح ابن مريم، خليفة الأرض.
الفصل السادس: الأرض الجديدة والبعث — جزاء العصاة
والمكافأة
بعد أن هبط آدم إلى الأرض في الشرق، واستقر إبليس
وزمرته في الأراضي الغربية، واستقرت الملائكة في الأراضي العليا من الجنة، أوجد
الله أرضًا جديدة في أسفل الكوكب. كانت هذه الأرض تُعرف بـ النار، لحرارتها الشديدة،
وأخبر الله الجميع — الملائكة، الجن، والإنس — أن من يعصي أمره، وبعد أن يموت في
حياته الأولى، سيُولد مجددًا في هذه الأرض الجديدة في الدرك الأسفل من الكوكب. اما
من يعمل صالحا فبعد ان يموت سيولد فى الاراضى العليا من الكوكب و سمى هذه الاراضى بالسماوات
حيث جعل الجنة.
وهنا يأتي مفهوم البعث: ليس مجرد انتقال للروح، بل هو
عودة الإنسان إلى الحياة بعد الموت في هيئة مناسبة لمصيره. فمن عصى أمر الله وأساء
في حياته الأولى، يولد مرة أخرى في الأراضى الحارة في الدرك الأسفل، حيث يواجه
نتيجة أفعاله ويعيش عواقبها. أما من أتم واجبه وعمل الخير، فسيُولد في الحياة
القادمة في الشمال، في أرض الجنة، حيث النعيم والسكينة، كل حسب مرتبته في الجنة او
في النار.
بهذا الترتيب، أصبح لكل كائن موقعه ودوره في الكون:
الإنسان:
موجود في الشرق الأوسط، بلونه البني أو الاصفر، مصنوع من الطين، وهو المسؤول عن
اتباع أوامر الله في الأرض الشرقية وتعميرها.
الملائكة:
استقروا في الأراضي العليا او السماوات، وهم البشر الذين يعيشون الان في شمال
العالم، رمزًا للطاعة والخير.
الجن: استقروا في
الغرب، أُعدوا لهم أراضٍ خاصة، وهم أولئك البشر الذين لقبوا بالهنود الحمر.
الاراضى السفلى (النار):
مكان ولادة العصاة بعد موتهم، لتطبيق الجزاء الإلهي على أفعالهم.
وظيفة البعث في النظام الإلهي
البعث ليس فقط عقابًا أو مكافأة، بل هو آلية لتعليم
الكائنات عن قيمة الطاعة والعمل الصالح. الإنسان يولد مرة أخرى ليعي معنى اختيار
الخير والشر، ويشاهد أثر أفعاله في العالم الجديد الذي وُضع له. فمن يعيش على
الأرض في طاعة، يُكافأ بالميلاد في الشمال في الجنة، ليواصل الخير ويثبت مكانته في
الحياة القادمة. ومن يعصي، يواجه العقاب في الأسفل، ليكون درسًا له وللآخرين.
هكذا رسم الله خريطة الكون والجزاء:
الشمال رمز السماوات والمكافأة.
الشرق الأوسط هو الأرض للإنسان، حيث الاختبار الأول.
الجنوب يمثل النار، الأرض المخصصة للعصاة بعد الموت.
الغرب هو أرض الجن، حيث اختيرت لهم الحياة الخاصة بهم.
ترتيب الحياة والجزاء
بهذا النظام، يعرف كل كائن مكانه ودوره: الإنسان
مسؤول عن طاعته وعمله، الملائكة رمز الطاعة المستمرة، الجن يمتلكون إرادتهم
الخاصة، وأرض النار تذكّر الكائنات بالعواقب. وكل ذلك تحت إشراف الله وحده، الذي
يقرر مصير كل روح ويعيدها وفق أفعالها، محققًا العدل الإلهي بين الجزاء والعقاب.
الهدف من البعث
البعث هو وسيلة لإكمال تجربة الحياة: ليس مجرد عودة
الروح، بل تكملة مسار الاختبار الإنساني. يولد الإنسان ليختبر مرة أخرى، ويصحح
أخطاءه أو يواصل خيره، ليظل العدل الإلهي قائمًا، ويثبت أن كل فعل له أثر دائم في
ترتيب الكون، سواء على الأرض أو في السماوات أو في النار.
بهذا المفهوم، تصبح الخريطة الكونية واضحة: الإنسان
في الأرض، الملائكة في السماوات، الجن في الغرب، والأرض الحارة (النار) في الأسفل،
مع البعث الذي يربط كل مرحلة بحسابها الإلهي، ويؤكد أن الحياة ليست مجرد لحظة، بل
مسار طويل من الاختبارات والجزاءات والمكافآت.
وهكذا يصبح البعث جزءًا من النظام الإلهي الذي رسمه
الله لكل الكائنات: كل حياة أولى تتلوها حياة ثانية، وكل موت هو بداية لحياة
جديدة، ليشهد كل كائن على أثر أفعاله ويمتحن مدى طاعته. هذا المفهوم يتوافق تمامًا
مع قول الله تعالى:
﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمْ
أَمْوَاتٗا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ﴾
(البقرة:
28)
فالآية توضّح أن الإنسان لا يعيش مرة واحدة فقط، بل
يمر بتجارب متعددة للحياة والموت، تمامًا كما ذكرنا عمن يعصي أمر الله فيولد بعد
موته في أسفل العالم (النار)، ومن يعمل الخير يُولد في الشمال في الجنة. الحياة
إذًا ليست مجرد لحظة، بل مسار متصل من الاختبار والجزاء والبعث، وتذكّر كل روح أن
النهاية للخالق وحده، الذي إليه تُرجع كل الأمور.
الفصل السابع: تعمير الأرض — آدم والوصايا العشرة
بعد أن هبط آدم إلى الأرض في الشرق، وجد نفسه أمام
أرضٍ جرداء لا زرع فيها ولا ماء، صحراء قاحلة تنتظر أن يُحياها. كانت مهمته واضحة: تعليم البشرية أول
خطوات العيش والعبادة، وبدء عهدٍ جديد مع الله بعد سقوط الجنة.
أرسل الله إلى آدم الكلمات العشر،
لتكون وسائلَ للتعلم والتربية والوصية، وتوريثها لأبناءه من بعده. كانت هذه
الكلمات هي العهد الجديد الذي يمنحه الله للإنسان ليعرف الخير من الشر، ويقيم
حياةً منظمةً على الأرض:
﴿فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾
(البقرة: 37)
1.
لا
تشرك بالله أحدًا —
خالص التوحيد لله وحده.
2.
لا
تصنع لنفسك صنمًا أو صورةً — لا عبادة للأصنام ولا للتماثيل.
3.
لا
تنطق باسم الله عبثًا — احترام الاسم الإلهي وعدم استخدامه
في باطل.
4.
احفظ
يوم الراحة والعبادة — تخصيص وقت للتواصل مع الله.
5.
أكرم
أباك وأمك —
طاعة الوالدين واحترامهما.
6.
لا
تقتل —
حفظ النفس البشرية وحمايتها.
7.
لا
تزنِ —
الامتناع عن الفعل المحرم في العلاقات.
8.
لا
تسرق —
احترام ممتلكات الآخرين وعدم الاعتداء عليها.
9.
لا
تشهد زورًا على قريبك — الصدق في القول والشهادة.
10.
لا
تشتهِ ما لغيرك —
تجنب الحسد والشهوة لممتلكات الآخرين أو زوجاتهم.
مع هذه الوصايا، بدأ آدم يعمر الأرض، ويزرعها
بالعلم والحكمة، يعلم أبناءه كيفية العيش على أساس العدل والطاعة، ويضع الأسس
الأولى لمجتمعٍ إنساني متوازن، حيث يكون الإنسان مسؤولًا عن أعماله قبل أن
يورث الأرض لأبنائه.
الفصل الثامن: تعمير الأرض والبعث — الشرق الأوسط
والهنود الحمر
بعد أن هبط آدم وزوجه إلى الأرض في الشرق الأوسط،
كانت الأرض جرداء صحراء قاحلة، لا زرع فيها ولا ماء، والأفق ممتدّ بلا نهاية، تلوح
فيه الرمال والحرارة. واجه آدم وأبناؤه صعوبات هائلة في محاولة تعمير الأرض، كل
بذرة يُزرعها تتطلب عناية مستمرة، وكل خطوة نحو الحياة تحمل معها اختبارًا لقوة
الإنسان وإرادته. لقد كان كل يوم درسًا في الصبر والمثابرة، وكل مساء يُظهر لهم
مدى أهمية العمل والاجتهاد للبقاء واستمرار الخليفة في الأرض.
كان على آدم أن يبدأ بإرساء قواعد الحياة: حفر
الآبار، زراعة التربة، بناء المساكن، وتعلم استخدام الموارد الطبيعية التي وفرها
الله. لم تكن المهمة سهلة، فالأرض صلبة وقاسية، والمطر قليل، والريح تحجب بذور
الحياة. ومع ذلك، لم يثنه التعب عن الاستمرار، فقد علم أن الخلافة مسؤولية وعبء
قبل أن تكون شرفًا.
في المقابل، كان إبليس وذريته يهبطون إلى الأراضي
الغربية، تلك الأرض التي صنعها الله لهم، وكانت مختلفة عن شرق آدم. بدأوا
هناك بتكوين قبائلهم الخاصة، تتفاوت في القوة والحيلة، وبرز من بين هذه
القبائل الشيروكي والأباتشي. وحافظوا على روابط اجتماعية متينة،
وطوروا نظامًا مجتمعيًا قائمًا على التعاون والعمل الجماعي. والتاريخ يحكي انه لم
تكن حياتهم مجرد بقاء أو صراع، بل حضارة غنية بالمعرفة والقيم والاحترام المتبادل،
تُظهر كيف يمكن لأي كائن أن ينجح ويعيش بسلام حتى في بيئات مختلفة.
الفصل التاسع: نوح وبداية الرسالة
ومن بعد آدم جاء نوح، الذي اختاره الله ليكون رسولًا
للبشر الذين ضلوا الطريق. بدأ نوح بتعليم البشر الوصايا العشر مرة أخرى، ليهديهم
إلى الطريق المستقيم. كان الناس كثيرين جدًا، يعيشون في صحراء واسعة وموحشة، حيث
قسوة الأرض وندرة المياه جعلتهم عنيدين وغير صبورين على سماع الحق.
سافر نوح في كل أرجاء الشرق الأوسط، متنقلاً بين
القرى والمدن الصغيرة، يزور الجبال والوديان، يمر على البحيرات الصغيرة ويعبر الصحاري
الساخنة، يدعو الناس للعدل والرحمة، ويخبرهم بعواقب الظلم والطغيان ويحذرهم من
الطوفان القادم الذي سيلتهم كل شىء. كان يرفع صوته في الأسواق، وينادي في الشوارع،
ويجلس مع الأطفال ليعلمهم الوصايا العشرة التي ورثها عن ادم، ويزرع في قلوبهم
الإيمان.
لكن كثيرًا منهم لم يستمعوا له. سخروا منه وقالوا:
"كيف ستغمر الأرض المياه؟ الأرض قاحلة والشمس لا تغيب عن السماء إلا
ليلاً!" ظنوا أن نوح فقد عقله، ولكن الإيمان بداخله كان صلبًا، وعزيمته لم
تهتز. رغم السخرية والتهديدات، ظل يعلم المؤمنين ويجمع حوله من صدقوا برسالته،
يعدّهم للطوفان القادم ويحذرهم من العناد والخطيئة.
مرت السنين، وكبر عدد المؤمنين حول نوح. علمهم كيف
يعبدون الله بصدق، وكيف يحافظون على القيم والأخلاق. بدأ هؤلاء المؤمنون يشكلون
مجتمعًا صغيرًا، متماسكًا، مستعدًا لما سيأتي من أحداث عظيمة ستغير مصير الأرض.
وهكذا بدأت رحلة نوح الطويلة في إيصال رسالة الله، رحلة صبر ووفاء وإيمان.
الفصل العاشر: بناء السفينة والطوفان
وبعد أن أكمل نوح مهمته في الدعوة، أمره الله ببناء
سفينة ضخمة، استعدادًا للطوفان الذي سيغمر الشرق الأوسط. أخبره الله أن الطوفان لن
يغمر الأرض بأسرها فقط، بل سيطهر الأرض من الفساد والظلم ويبدأ حياة جديدة.
بدأ نوح بجمع الخشب والأدوات، ويعمل المؤمنون معه بجد
واجتهاد، يحملون الحطب ويشكلون الأعمدة والألواح. كانت السفينة ضخمة جدًا، تكفي
لحمل كل المؤمنين والحيوانات التي ستعينه فى الحياة الجديدة. صعد على السفينة
زوجين من كل نوع من الحيوانات: غنم، جمال، بقر، وربما بعض القطط والكلاب والدجاج
المحلي الذي لا يستطيع الطيران. فلم يكن على السفينة وحوشا مفترسة او زواحف
سامة، او هكذا اعتقد.
كما صعد المؤمنون الذين صدّقوا بنبوته، وابناؤه
الثلاثة: سام، جد شعوب الشرق الأوسط؛ حام، جد شعوب الهندوس؛ ويافث،
جد الشعوب البوذية. أما الابن الرابع، فقد رفض فكرة الطوفان ورفض الانضمام إلى
نوح. طلب نوح من الله إنقاذه، فأجابه الله أن هذا الطفل ليس ابنه الحقيقي، فقد
خانته زوجته!
والآية تحتمل التأويل
﴿وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا۟
ٱمْرَأَتَ نُوحٖ وَٱمْرَأَتَ لُوطٖۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا
صَٰلِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ ٱللَّهِ شَيْـٔٗا
وَقِيلَ ٱدْخُلَا ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّٰخِلِينَ﴾
(التحريم: 10)
قبل انطلاق السفينة، اجتمع نوح مع أبنائه الثلاثة،
وقال لهم: "كونوا صادقين واثبتوا على طاعة الله، فالقادم لن يكون
سهلاً." كانت الرياح تهب من كل جانب، والغيوم تتجمع في السماء، علامة قرب
الطوفان. بدأت الأمطار تتساقط على شكل قطرات صغيرة، ثم تحولت إلى سيل يغمر الأرض
المنخفضة.
استمرت الأمطار لشهور، والرياح تعصف بالسفينة، لكن
نوح والمؤمنون كانوا صامدين. كانت الحيوانات في الأقسام المختلفة، كل نوع مع
رفيقه، تعيش في سلام رغم الصعاب. وكان كل يوم يحمل دروسًا جديدة عن الصبر والتعاون
والإيمان.
الفصل الحادى عشر: نهاية الطوفان وبداية الأمم
الجديدة
مع مرور الوقت، بدأت المياه تنحسر تدريجيًا، وظهرت
جبال وصحاري جديدة أكثر خصوبة وواسعة. رست السفينة على أرض جديدة، أكبر وأكثر
رحابة من ذي قبل. توفي نوح بعد ذلك بوقت قصير، وترك أبناءه الثلاثة ليبدأوا حياة
جديدة.
قرر سام البقاء في منطقة الشرق الأوسط، ليؤسس
أمة الشرق الأوسط وهم الساميون. أما حام، فقد سافر شرقًا حتى وصل إلى الهند
واستقر هناك، مؤسسًا الأمة الهندوسية. يافث تابع رحلته الى اقصى الشرق حتى وصل إلى
المحيط واستقر هناك، مؤسسًا الشعوب القصوى عن الشرق الأوسط، وهم البوذيون.
وخلال هذه الفترة، تكاثرت نسل نوح وأصبح لكل ابن دور
في بناء الأمم الجديدة. ومن نسل سام جاء تَرَاح، ومن تَرَاح جاء إبراهيم، الذي
أصبح أحد أعظم أنبياء الله، ومؤسس ميراث عظيم من الأديان والشعوب. وهكذا بدأت
الأمم الجديدة بعد الطوفان، كل واحدة على أرضها، مستمرة بعد النجاة من الطوفان
العظيم الذي غمر الشرق الأوسط، تاركًا العالم الآخر خارج دائرة الدمار
الفصل الثانى عشر: ولادة التساؤل
بعد أن بدأ نسل البشر الذين نجوا من الطوفان يعيشون
على الأرض الجديدة، سرعان ما ضلوا الطريق مرة أخرى. في وسط هذا العالم الجديد، بدأ
إبراهيم يبحث عن الله، لكنه لم يكن يعرف كيف يصل إليه.
رأى إبراهيم الناس يعبدون القمر ويقفون للصلاة قبل
الفجر، وحاول أن يقلدهم، معتقدًا أن هذه هي الطريقة الصحيحة لعبادة الله. كان يقف
في الصباح الباكر، ينظر إلى القمر ويتأمل في ضوءه البارد، مستشعرًا قوة غريبة،
لكنه شعر بأن هذا لا يكفي، لأن الإنسان يحتاج إلى إله يكون معه طوال اليوم، لا فقط
عند بدء النهار أو نهايته.
وهكذا بدأ إبراهيم يفكر بعمق: "هل يمكن أن يكون
القمر هو الله؟ لا، يجب أن يكون هناك قوة أكبر، قوة ترافقنا في كل لحظة من
حياتنا." بدأ التساؤل يملأ قلبه وعقله، وبدأ يبحث عن معنى أكبر للوجود، عن
الله الحقيقي الذي لا يقتصر وجوده على ساعة معينة من اليوم.
مع مرور الأيام، لاحظ إبراهيم أن بعض الناس يعبدون
الشمس ويصلون عند الغروب، ويطلبون من الشمس أن تعود كل مساء. جرب إبراهيم هذا
أيضًا، لكنه شعر أن هذه الطريقة ليست صحيحة أيضًا، لأن الشمس تختفي كل مساء، ولا
يمكن أن يكون الله محصورًا بالنهار فقط.
بدأ إبراهيم يتأمل في الليل والنهار، وفي حركة النجوم
والكواكب. رأى أن هناك نظامًا أكبر، وأن هناك من خلق كل شيء، من القمر إلى الشمس
إلى الأرض نفسها. بدأ قلبه وعقله يفتحان على فكرة عظيمة: "الله ليس القمر ولا
الشمس، بل هو خالق كل شيء، موجود دائمًا، في الليل والنهار، في كل مكان وكل زمان."
وهكذا قرر إبراهيم أن يترك عبادة الكواكب، وبدلاً من
ذلك، يركز على البحث عن الله الحقيقي. أصبح قلبه هو مرشده، وعقله مستعدًا لفهم
الحقائق الكبرى، بعيدًا عن التقاليد البالية التي لم تطبق وصايا الله العشر أجيال
طويلة.
الفصل الثالث عشر: اتباع القلب ووصايا الله
استوعب إبراهيم أن الله موجود 24 ساعة في اليوم، وأنه
لا يحتاج إلى وقت محدد أو شكل معين للعبادة. قرر إبراهيم أن يؤسس معتقده الخاص،
قائمًا على استفتاء قلبه
ومشاعره، مع الالتزام بالوصايا العشر التي عرفها كل شعب ابراهيم، ولكن لم يطبقها
أحد، حتى أبوه.
بدأ إبراهيم يتعلم كيفية التوازن بين القلب والعقل،
بين الروح والجسد، ويفهم أن العبادة الحقيقية ليست مجرد طقوس، بل حياة كاملة تتبع
قيم الحق والعدل. بدأ يعلم من حوله أن اتباع القلب مع الطاعة الحقيقية للوصايا
يجعل الإنسان أقرب إلى الله، وأن الحياة لا تكون مجرد تقليد لما يفعله الآخرون، بل
تجربة شخصية مع الخالق.
وهكذا بدأت رحلة إبراهيم، رحلة البحث عن الله
الحقيقي، رحلة تبني العقل والقلب معًا، رحلة تحدت كل العادات القديمة لتؤسس أسس
دين ينبع من القلب، ويجعل الإنسان مسؤولًا عن أعماله، ملتزمًا بالقيم والوصايا
التي كانت ضائعة بين الأجيال.
الفصل الرابع عشر: البشارة بإسحاق ولحظة الفداء
في كتاب الله، وردت بشارتان عظيمتان لإبراهيم عليه
السلام، وكلتاهما كانتا صريحتين بأن الابن الذبيح هو إسحاق.
البشارة الأولى:
قوله تعالى ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ
حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ…﴾، أي أن الله بشّر إبراهيم بغلامٍ
حليم، سيكبر ويبلغ مرحلة السعي مع أبيه، أي سن الشباب، وهو الغلام الذي رآه
إبراهيم في رؤياه يؤمر بذبحه. هذا الغلام هو إسحاق.
البشارة الثانية:
قوله تعالى ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ
نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾. وهنا يظهر الأمر
أوضح ما يكون: الغلام المبشّر به هو إسحاق، وهو نفسه الذي أراد الله أن يكون موضع
الاختبار العظيم، والذبيح الذي سيُفتدى بمعجزة إلهية، ليبقى نسل البركة قائمًا من
ذريته.
إسلام ابراهيم و اسحاق – نموذج الطاعة
رأى إبراهيم في المنام أنه يذبح ابنه إسحاق، ففزع
قلبه، لكنه علم أن رؤيا الأنبياء وحي من الله. اقترب من ابنه وقال له بصوتٍ متقطع
من شدّة الموقف:
"يا بنيّ، إني أرى في المنام أني أذبحك،
فانظر ماذا ترى؟"
رفع إسحاق رأسه إلى أبيه بابتسامة ثابتة، وقال بكل
إيمانٍ ورضا:
"يا أبتِ، افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء
الله من الصابرين."
تجمّدت اللحظة، وساد الصمت. في الفجر الباكر، خرج
إبراهيم مع ابنه إلى المكان الموعود. كانت الرمال باردة تحت أقدامهما، والنسيم
يحمل رهبة اللحظة. وضع إبراهيم الحجارة، وهيأ الموضع، وربط ابنه برفق حتى لا
يؤذيه، ثم وضع جبينه على الأرض، ورفع السكين بيد مرتجفة وقلب يتفطّر ألمًا.
وفي اللحظة الحاسمة، حين لامست السكين عنق إسحاق، جاء
النداء من السماء، صافياً مزلزلاً:
"يا إبراهيم، قد صدّقت الرؤيا"
انهمرت دموع الفرح من عيني إبراهيم، وانطلق قلبه
بالحمد لله. فإذا بكبش عظيم يُرسل من السماء، ليكون فداءً عن إسحاق. هرع إبراهيم
وفك وثاق ابنه، وذبح الكبش مكانه.
وهكذا تحولت لحظة الألم إلى لحظة رحمة، ولحظة التضحية
إلى لحظة فداء، وظهر للعالم أن إرادة الله لا تُقهر، وأن البركة ستستمر في نسل
إسحاق، ليأتي من بعده يعقوب.
الفصل الخامس عشر: وعد الله لأتباع المسيح
ومن نسل إبراهيم واسحاق ويعقوب جاء المسيح ابن مريم
ليكون الخليفة المنزه عن خطيئة ادم وليبدأ عهدا جديدا للبشرية.
خطاب الله لعيسى عليه السلام
يقول الله تعالى في كتابه الكريم:
﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي
مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ
الْقِيَامَةِ﴾ [آل عمران: 55].
هذه الآية تحمل وعدين عظيمين:
الأول: أن الله نجّى عيسى ورفعه إليه، فلم ينله كيد
الكافرين.
الثاني: أن الله جعل الغلبة والتمكين لأتباع المسيح
على من كفر به، إلى يوم القيامة.
وهذا الوعد الإلهي فريد، لأنه امتد في الزمن عبر قرون
طويلة، ليظل أثره قائمًا حتى عصرنا الحالي.
الغلبة عبر التاريخ
منذ أن انتشرت دعوة المسيح في أوروبا، صارت القارة
مركزًا للديانة المسيحية، ومنها انطلقت الحضارة الغربية.
رغم الانقسامات والحروب الداخلية (كالحروب الصليبية،
والإصلاح الديني)، فإن الشعوب المسيحية كانت دائمًا في حالة صعود حضاري.
مع عصر النهضة ثم الثورة الصناعية، أصبحت أوروبا
متفوقة على باقي أمم الأرض علميًا واقتصاديًا وعسكريًا.
وفي العصر الحديث، انتقلت هذه الغلبة إلى الشعوب
الأوروبية في العالم الجديد، حيث قامت الولايات المتحدة الأمريكية بدور وريث
الحضارة الأوروبية، حتى صارت القوة الأولى في العالم.
وهكذا تحققت نبوءة الآية: أن الذين اتبعوا المسيح
ظلوا فوق سائر الامم عبر العصور المتعاقبة.
الغلبة في الواقع المعاصر
الغلبة التي تحدّثت عنها الآية لا تقتصر على الحروب
أو القوة المادية فقط، بل تشمل:
العلم والتكنولوجيا:
حيث ما زالت أوروبا وأمريكا تتقدمان العالم في الاختراعات والاكتشافات.
الاقتصاد والمال:
إذ تسيطر هذه الأمم على النظام المالي العالمي.
الثقافة والفكر:
عبر الإعلام والفنون والجامعات التي تُصدِّر رؤيتها للعالم.
لكن هذا التفوق لا يعني أن تلك الأمم معصومة من
الانحراف، بل يظل وعد الله مشروطًا بالإيمان الحقيقي والتمسك بالوصايا التي جاء
بها المسيح. أما حين ينحرفون عن ذلك، فإن وعد الله قائم بأن يبدّل أحوالهم كما
بدّل أحوال غيرهم.
وهكذا، نرى أن الآية الكريمة لم تكن مجرد خبر تاريخي،
بل حقيقة ممتدة نعيش أثرها حتى يومنا هذا.
ورغم أن أتباع المسيح نالوا وعد الله بالغلبة
والتمكين عبر القرون، فإن الرسالة لم تكتمل إلا بخاتم الأنبياء محمد ﷺ، الذي جاء
ليوازن الكفة من جديد، ويعيد البشرية إلى أصل التوحيد الخالص، جامعًا ما تفرّق من
هداية موسى، ومحبة المسيح، وشريعة إبراهيم.
وهكذا كان الإسلام الخاتم هو الحلقة الأخيرة في سلسلة
النور، ليبقى السؤال مفتوحًا أمام البشرية: كيف ستتفاعل أمم الأرض مع هذا التوازن
بين وعد أتباع المسيح، ورسالة محمد ﷺ للعالمين؟
الفصل
السادس عشر: ملة إبراهيم الحنيفية
دعوة
محمد ﷺ إلى ملة إبراهيم
جاء
النبي محمد ﷺ بالقرآن الكريم خاتمًا للرسالات، فلم يأتِ بدين جديد منفصل عن
السابقين، بل جاء مكمِّلًا لما سبق، ومؤكدًا على الأصل الجامع: ملة إبراهيم حنيفًا،
دين الفطرة.
قال
تعالى:
﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ
حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل: 123]
بهذا
أوضح القرآن أن دين إبراهيم هو الأساس، وأن محمدًا إنما جاء ليعيد الناس إلى الأصل
الأول: عبادة الله وحده بلا شريك.
معنى
الإسلام – الطاعة
كلمة
"الإسلام" في أصلها لا تعني اسم دين جديد، وإنما تعني الطاعة الكاملة
لله، والخضوع لمشيئته.
فإبراهيم
كان مسلمًا بطاعته لله، وموسى كان مسلمًا حين أطاع وصايا الله، والمسيح كذلك دعا
إلى الإسلام أي الاستسلام لإرادة الله.
إذن،
فالإسلام هو جوهر الرسالات جميعًا، والقرآن جاء ليؤكد أن الطاعة لله وحده هي
الرابط المشترك بين الأنبياء وأممهم، مهما اختلفت الأزمنة واللغات.
وحدة
الديانات الإبراهيمية
عندما
ذكر القرآن "ملة إبراهيم حنيفًا"، كان يشير إلى أن جميع الديانات الكبرى
– اليهودية والمسيحية والإسلام – تشترك في أصل واحد. فهي ليست أديانًا متنافرة، بل
فصول في كتاب واحد.
فالوصايا
العشر التي حملها موسى، والموعظة التي دعا إليها المسيح، والقرآن الذي جاء به محمد
ﷺ، كلها تعود إلى أصل واحد: دين إبراهيم الحنيف.
وهكذا
يثبت القرآن أن الرسالات السماوية لم تكن متفرقة في جوهرها، بل متصلة بخيط واحد،
يمثل دعوة الله الدائمة للإنسان: الطاعة، العدل، التوحيد
.
**﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ
هُوَ اجْتَبَاكُمْ ۖ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ
مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ
وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ
عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا
بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾
(الحج:
78)
الخاتمة
وهكذا
يتضح أن الرسالات السماوية، على اختلاف أنبيائها وأزمانها، إنما تصب في نهر واحد،
وتلتقي عند أصل جامع: ملة إبراهيم الحنيفية.
فاليهودية،
والمسيحية، والإسلام، ليست سوى تعبيرات متتابعة عن الدين الواحد الذي أراده الله
لعباده: دين التوحيد والطاعة والعدل.